فصل: الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا

هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها‏.‏ وأما الرؤيا والتعبير لها فقد كان موجوداً في السلف كما هو في الخلف‏.‏ وربما كان في الملوك والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام‏.‏ وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها‏.‏ فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن‏.‏ وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ والرؤيا مدرك من مدارك الغيب‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ‏"‏‏.‏ وأول ما بدىء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه‏:‏ ‏"‏ هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ‏"‏ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه‏.‏ وأما السبب في كون الرؤيا مدركاً للغيب فهو أن الروح القلبي وهو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها‏.‏ فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس وتصريف القوى الظاهرة وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب‏.‏ ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك‏.‏ وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه‏.‏ فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كل مدرك‏.‏ فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلا بد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها وهي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة به من عالمه‏.‏ وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه‏.‏ إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية‏.‏ والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال‏.‏ فإنه ينترع من الصور المحسوسة صوراً خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت للحاجة إليها عند النظر والاستدلال‏.‏ وكذلك تجرد النفس منها صوراً أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما‏.‏ وكذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة له ويدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنه محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي‏.‏ والخيال أيضاً واسطة‏.‏ هذه حقيقة الرؤيا‏.‏ ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم‏.‏ لكن إن كانت تلك الصور متنرلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي واعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله بما ألقى إليه في نومه‏:‏ فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة ولو كان مستغرقاً في نومه لثقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخللها سهو ولا نسيان‏.‏ ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكر بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه‏.‏ ولا يغرب عنه شيء منها لأن الإدراك النفساني ليس بزماني ولا يلحقه ترتيب بل يدركه دفعة في زمن فرد‏.‏ وأضغاث الأحلام زمانية لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه‏.‏ وأفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدم والمتأخر‏.‏ ويعرض النسيان العارض للقوى الدماغية‏.‏ وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية ولا ترتيب فيها‏.‏ وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر‏.‏ وقد تبقى الرؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أياماً من العمر لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قوياً وإذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر والوجهة إليها وينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة وإنما هي من أضغاث الأحلام‏.‏ وهذه العلامات من خواص الوحي‏.‏ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ‏"‏ والرؤيا لها نسبة من النبوة والوحي كما في الصحيح‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فلخواصها أيضاً نسبة إلى خواص النبوة وبذلك القدر فلا تستبعد ذلك فهذا وجه الحق‏.‏ والله الخالق لما يشاء‏.‏ وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية‏.‏ فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وأن المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلاً هو السلطان‏:‏ لأن البحر خلق عظيم يناسب أن تشبه به السلطان وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك‏.‏ ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب النسبة فيها بين المدرك وشبهه‏.‏ ولهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث‏:‏ رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان‏.‏ فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث‏.‏ واعلم أيضاً أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس وما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئأً‏.‏ فلا يمكن من ولد أعمى اكمه أن يصور له السلطان بالبحر ولا العدو بالحية ولا النساء بالآواني لآنه لم يدرك شيئاً من هذه‏.‏ وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات‏.‏ وليتحفظ المعبرمن مثل هذا فربما اختلط به التعبيروفسد قانونه‏.‏ ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبرعبارة ما يقص عليه‏.‏ وتأويله كما يقولون‏:‏ البحر يدل على السلطان وفي موضع آخريقولون‏:‏ البحريدل على الغيظ وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح‏.‏ ومثل ما يقولون‏:‏ الحية تدل على العدو وفي موضع آخريقولون تدل على الحياة وفي موضع آخر هي كاتم سر وأمثال ذلك‏.‏ فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية‏.‏ ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هوأليق بالرؤيا‏.‏ وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبربالخاصية التي خلقت فيه وكل ميسرلما خلق له‏.‏ ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف‏.‏ وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتبت عنه في ذلك قوانين وتناقلها الناس لهذا العهد‏.‏ وألف الكرماني فيه من بعده‏.‏ ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا‏.‏ والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع وغيره وكتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه وأحضرها‏.‏ وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس‏.‏ وهوعلم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح‏.‏ والله علام الغيوب‏.‏

  الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها

وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذوفكرفهي غيرمختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها‏.‏ وهي موجودة في النوع الإنساني منذكان عمران الخليقة‏.‏ وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم‏:‏ الأول علم المنطق وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الآمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفياً وثبوتاً بمنتهى فكره‏.‏ ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية‏.‏ أو النفس التي تنبعث عنها الحركات وغيرذلك ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو العلم الثاني منها‏.‏ وإما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وهو العلم الثالث منها‏.‏ والعلم الرابع وهو الناظر في المقادير ويشتمل على اربعة علوم وهي تسمى التعاليم‏.‏ أولها‏:‏ علم الهندسة وهو النظر في المقادير على الإطلاق‏.‏ إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة وهي إما ذو بعد واحد وهو الخط أو ذو بعدين وهو السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التعليمي‏.‏ ينظر في هذين المقادير وما يعرض لها أما من حيث ذاتها أومن حيث نسبة بعضها إلى بعض‏.‏ وثانيها‏:‏ علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة‏.‏ وثالثها‏:‏ علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد ورابعها‏:‏ علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية‏!‏ المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها‏.‏ فهذه اصول العلوم الفلسفية وهي سبعة‏:‏ المنطق وهو المقدم منها وبعده التعاليم فالآرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه‏.‏ فمن فروع الطبيعيات الطب ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحسبانات حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك‏:‏ ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية‏.‏ ونحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها‏.‏ واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفوراً فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم‏.‏ وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم‏.‏ واخذ ذلك عنهم الامم من فارس ويونان فاختص بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلومن خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر‏.‏ ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع‏.‏ الله أعلم بصحتها‏.‏ مع ان سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها‏.‏ وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً ونطاقها متسعاً لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك‏.‏ ولقد يقال‏:‏ إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم وعلومهم‏.‏ إلأ أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ما لا يأخذه الحصر كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين‏.‏ فكتب إليه عمرأن اطرحوها في الماء‏.‏ فإن يكن ما فيها هدًى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله‏.‏ فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا‏.‏ وأما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولاً وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة وغيرهم‏.‏ واختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم‏.‏ كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا‏.‏ واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط الدن ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفروسي وتامسطيوس وغيرهم‏.‏ وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الني غلب الفرس علي ملكهم وانتزع الملك من أيديهم‏.‏ وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتاً وشهرةً‏.‏ وكان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر‏.‏ ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها‏.‏ وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدةً باقيةً في خزائنهم‏.‏ ثم ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقيةٌ فيهم‏.‏ ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم‏.‏ وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم‏.‏ تشوفوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها‏.‏ فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدوس وبعض كتب الطبيعيات‏.‏ فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حريصاً على الظفر بما بقي منها‏.‏ وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصاً وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي‏.‏ وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب‏.‏ وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها‏.‏ وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنه‏.‏ ودونوا في ذلك الدواوين واربوا على من تقدمهم في هذه العلوم‏.‏ وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد ابن رشد والوزير أبو بكر بن الصائني بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم‏.‏ واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات‏.‏ ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق وعلى مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس وتلميذه‏.‏ ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه‏.‏ ولو شاء ربك ما فعلوه‏.‏ ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلاً من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة‏.‏ ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبج من العلوم العقلية والنقلية لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم‏.‏ ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم‏.‏ وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعاً على العلوم الحكمية وتضلعاً بها وقدماً عالية في سائر الفنون العقلية‏.‏ والله يؤيد بنصره من يشاء‏.‏ وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة وداوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون‏.‏ والله أعلم بما هنالك وهو يخلق مايشاء ويختار‏.‏

  الفصل العشرون العلوم العددية

وأولها الأرتماطيقي وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف‏.‏ مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد‏:‏ فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد ومثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فرداً مثل الأعداد على تواليها والأزواج على تواليها والأفراد على تواليها‏.‏ ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة بأن يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها إلخ أو يكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ‏.‏ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الأخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الآخر‏.‏ ومثل مربع الواسطة إن كانت العدة فرداً وذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر‏.‏ ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة‏.‏ وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة‏.‏ وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا‏.‏ وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض‏.‏ ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات إلخ وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغاً ما بلغ‏.‏ ويحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولاً وعرضاً خواص غريبة استقريت منها وتقررت في دواوينهم مسائلها‏.‏ وكذلك ما يحدث للزوج والفرد وزوج الزوج وزوج الفرد وزوج الزوج والفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره‏.‏ وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب‏.‏ وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفرعونه بالتأليف‏.‏ فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وغيره من المتقدمين‏.‏ وأما المتأخرون فهم عندهم مهجوز إذ هو غير متداول ومنفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ علم الحساب ومن فروع علم العدد صناعة الحساب وهي صناعة عملية في حسبان الأعداد بالضم والتفريق‏.‏ فالضم يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع‏.‏ وبالتضعيف أي يضاعف عدد بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب والتفريق أيضاً يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة وهو القسمة‏.‏ وسواء كان هذا الضم والتفريق في الصحيح من العدد أو الكسر‏.‏ ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد وتلك النسبة تسمى كسراً‏.‏ وكذلك يكون الضم والتفريق في الجذور ومعناها العدد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع‏.‏ والعدد الذي يكون مصرحاً به يسمى المنطق ومربعه كذلك ولا يحتاج فيه إلى تكلف عمل بالحسبان‏.‏ والذي لا يكون مصرحاً به يسمى الأصم ومربعه‏:‏ إما منطق مثل جذور ثلاثة الذي مربعه ثلاثة وإما أصم مثل جذر ثلاثة الذي مربعه جذر ثلاثة وهو أصم ويحتاج إلى عمل من الحسبان‏.‏ فإن تلك الجذور أيضاً يدخلها الضم والتفريق‏.‏ وهذه الصناعة الحسابية حادثة احتيج إليها للحسبان في المعاملات وألف الناس فيها كثيراً وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان‏.‏ ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة وبراهينها منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب‏.‏ وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير ذلك له خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً‏.‏ ومن أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير‏.‏ ولابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب وهو مستغلق على المبتدىء بما فيه من البراهين الوثيقة المباني وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه وهو كتاب جدير بذلك‏.‏ وساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب لابن منعم والكامل للأحدب ولخص براهينها وغيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة هي سر الإشارة بالحروف وزبدتها‏.‏ وهي كلها مستغلقة وإنما جاءها الاستغلاق من طريق البرهان شأن علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها‏.‏ وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال‏.‏ وفي ذلك من العسرعلى الفهم مما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله‏.‏ والله يهدي بنوره من يشاء وهو القوي المتين‏.‏ علم الجبر ومن فروعه الجبر والمقابلة وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك‏.‏ فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب‏:‏ أولها العدد لأن به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه وثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء وهو أيضاً جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية وثالثها المال وهو أمر مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس من المضروبين‏.‏ ثم يقع العمل المفروض في المسألة فيخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثرمن هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض‏.‏ ويجبرون ما فيها من الكسر‏.‏ حتى يصير صحيحاً‏.‏ ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم وهي العدد والشيء والمال‏.‏ فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعين فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين‏.‏ والمال إن عادل الجذور فيتعين بعدتها‏.‏ وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين وهي مبهمة فيعينها ذلك الضرب المفصل‏.‏ ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين‏.‏ وأكثرما انتهت المعادلة عندهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة‏.‏ وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه‏.‏ وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه‏.‏ وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا‏.‏ ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي‏.‏ وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلها أعمالاً وثيقة وأتبعها ببراهين هندسية‏.‏ والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى‏.‏ ومن فروعه أيضاً المعاملات وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات تصرف في ذلك صناعتا الحساب في المجهول والمعلوم والكسر والصحيح والجذور وغيرها‏.‏ والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب‏.‏ ولأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي وابن السمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم‏.‏ ومن فروعه أيضاً الفرائض‏:‏ وهي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقراراً أو انكار من بعض الورثة دون بعض فيحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة إلى كم تصح وسهام الورثة من كل بطن مصححاً حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة‏.‏ فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسوره وجذوره ومعلومه ومجهوله ويترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية ومسائلها‏.‏ فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه وهو أحكام الوراثات في الفروض والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتدبير وغير ذلك من مسائلها وعلى جزء من الحساب في تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي وهي من أجل العلوم‏.‏ وقد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل‏:‏ الفرائض ثلث العلم وإنها أول ما يرفع من العلوم وغير ذلك‏.‏ وعندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم‏.‏ وأما الفرائض العينية فكثيرة وقد ألف الناس في هذا الفن قديماً وحديثاً وأوعبوا‏.‏ ومن أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله تعالى كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي وكتاب ابن المنمر والجعدي والصردي وغيرهم‏.‏ لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها‏.‏ وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح وأوعب‏.‏ ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم ورسوخ قدمه وكذا للحنفية والحنابلة‏.‏ ومقامات الناس في العلوم مختلفة‏.‏ والله يهدي من يشاء بمنه وكرمه لا رب سواه‏.‏